والدتي هي ابنة عم والدي وابنة خالته في وقت واحد، وكنت أنا ثمرة هذا الزواج القريب جداً، فولدت بعيوب خلقية عدة، أولها وأسوأها كان الشلل، فقد كان عمودي الفقري غير كامل، وبعد عام اكتشفوا أنني مصاب بسرطان الدم أو اللوكيميا، عولجت لفترة تتعدى الخمس سنوات في مستشفى خاص بالأمراض السرطانية للأطفال، وبقيت اذهب إلى هناك إلى أن أصبحت في السابعة، كنت أتألم جدا بعد كل علاج كيميائي أبكي وأصرخ، أشعر بأنني لا أعرف جسدي ولم اعد أملكه ولا ماذا يجري، كانوا يحلقون شعري الذي كان يتساقط، كنت أرى الأولاد الذين كانوا يأخذون نفس العلاج وهم يصرخون من الألم والانزعاج مما يجري. كنا تقريبا كلنا حليقي الرأس. لم أصدق حينما قال لي والدي إنها المرة الأخيرة التي نذهب بها إلى هذا المستشفى، فقد أكد له الأطباء أنني شفيت بالكامل، كانت سعادته لا توصف عندما أخبرني، أصبحت أفهم الأمور أكثر، فكرت كيف كانوا ينتظرون ولادتي بفارغ الصبر وإذ بي معوق من عدة نواح، لم يكن هناك من صورة صوتية أو تحاليل لاكتشاف الإعاقات أو الأمراض وقتها فشكلت صدمة لهم. بدأ الأطباء بالعمل على أبحاث وعمليات جراحية، لكنهم لم يستطيعوا مساعدتي بأن أسير يوما على قدمي. كنت لا أعير هذا الموضوع اهتماما كبيرا في البداية، صحيح أنني كنت أعرف بأنني لست مثل باقي الأولاد لكنني لم أكن أفهم لماذا، وعندما أصبحت في الرابعة من عمري بدأ هذا الشيء يوترني، كنت أكثر من الأسئلة لماذا أنا مختلف عنهم، لماذا عندي قدمين مثلهم لكنني لا أستطيع السير عليهما، كنت أرى دموع والدتي تتدحرج على وجهها الجميل وتقول لي كل إنسان منا وهبه الله سبحانه شيء مميز، فهم يسيرون لكنهم لا يملكون ذكاءك، فأنت عبقري صغير، قل لي كم ولد في عمرك لديه المعلومات التي عندك، ومن يحفظ مثلك، فأنت تعرف أسماء كل دولة وعاصمتها، تعرف أسماء السيارات وسرعتها. أليسوا جميعهم؟ هكذا سألتها. بالطبع لا. أجابتني أنت مختلف عنهم يا حبيبي. لكنني لا أريد أن أكون عبقريا بل أريد أن أسير مثلهم على قدمي. كنت كلما أكبر عاما أفهم أكثر ما يعني الاختلاف، ولطالما تمنيت أن أكون متخلفاً وليس مختلفاً، ليتني لا أفهم فهذا الشيء يعذبني.
قضيت طفولتي وحيداً من دون صديق أو رفيق، كانوا يبتعدون عني واحداً تلو الآخر. كانوا يسألونني لماذا تجلس دائماً على هذا الكرسي؟ فأجيب لأنني لا استطيع السير، فيقولون لماذا هذا شيء سهل فقط حرك ساقاً قبل الأخرى إلى الأمام وهكذا تستطيع السير مثلنا. حاولت أن افعل كما قالوا لي، حاولت أن أقوم عن ذاك الكرسي، لكن قدماي كانتا عبارة عن خرقة بالية، كنت أقع وأبكي، فتأتي والدتي وهي تصرخ، حبيبي ما الذي جرى، كيف وقعت. كنت أنظر إليها بعينين دامعتين وأقول لا تخافي يا أمي. كنت فقط أحاول أن أمشي مثل الجميع فكانت تحملني بين ذراعيها وتعيدني إلى الكرسي، وهي تقول بإذن الله يوما ما ستمشي، سوف ترى سيتم اكتشاف السبب ومعالجته، لكنها كانت تكذب عليّ وأنا أصدقها، لأنني أردت أن أصدقها أردت ان أكون متفائلاً فقد اخترعوا كل شيء، فمن كان يتصور أننا سنتكلم على هاتف أصغر من الإصبع بعد أن كنا نجر شريطاً طويلاً لهاتف كبير، من كان يفكر أن سفينة تزن أطنان الأطنان تطفو على سطح الماء الذي ان وضعت عليه إبرة تغرق. من كان يقول إن طائرة ضخمة تحمل مئات الأشخاص تطير في الفضاء الواسع، كيف عرفوا الطرقات، كيف اكتشفوا لقاحا للكوليرا الذي كان يقتل الملايين، كيف يزرعون قلبا جديدا لشخص يتوقف قلبه، ان الله عز وجل وجد لكل داء دواء، فلا بد أن يأتي اليوم الذي يكتشف أحدهم طريقة أستطيع من خلالها السير كباقي مخلوقاته.
بدأت أتعود نوعاً ما على حياتي وأتقبلها بما فيها من مآس وأمراض وآلام وتشوهات، لكن الذي لم أتقبله فعلا كان وحدتي. كنت أجلس لساعات أنظر من نافذة غرفتي، أراقب الأولاد يلعبون بكرة القدم، انظر إليهم كيف يجرون ويحركون أقدامهم بخفة وسرعة فأنظر إلى قدمي فأجدهما جامدتين، أحملهما واحدة بعد الأخرى بيدي، وأنزلهما على الأرض، أحركهما إلى الأمام والخلف، أتخيل نفسي وأنا واقف وأسير مثل الجميع، لكن وبعد دقائق أعود إلى واقعي الأليم فأغلق الستائر حتى لا أراهم، ومنعت والدتي من فتحها. كانت أشعة الشمس لا تدخل غرفتي التي أعيش فيها في ظلام دامس، رفضت أن أرى ماذا يوجد في الخارج، حبست نفسي بين قضبان جدرانها أكثر من شهر، أضع الكرسي خلف مكتبي، أقرأ وأكتب أمسك فرشاة الرسم وألون، كانت لوحاتي غامقة غامضة معقدة لا لون بها ولا حياة مثلي تماما، كنت متفوقا في دراستي لأن لا شيء عندي يلهيني عنها، واخترت أن أكون طبيباً نفسياً علني أريح نفسي وأتقبل واقعي وأرضى بنصيبي، لكنني لم أستطع ان أفعل شيئاً لنفسي، فكيف أستطيع أن أساعد غيري. كنت أتمنى لو أنني أعيش كابوساً مزعجاً لا استيقظ منه سيكون أرحم من الحياة التي أعيشها، لكن كابوسي هو كابوس اليقظة، مستمر ودائم، لا أستيقظ منه مثل الباقين لأصرخ، وأضع يدي على صدري، أشرب قليلا من الماء وأمسح العرق الذي يغطي وجهي، أهدئ دقات قلبي الخائف. الفزع عندي مستمر وطويل، والألم ساعاته متواصلة، ماذا أفعل؟ كيف ألهي نفسي؟ أين أجد صديقاً يسمعني؟ لأخرج ما بداخلي من قهر وعذاب، من وحدة وخوف من المستقبل، من دون أن يعطيني النصائح ويتهمني بالتشاؤم، يكون بجانبي ويهتم بي دون سؤال أين أجده أين؟ كنت أسمع شقيقي يتكلم على الهاتف مع فتاة ما، لم أكن أقصد أن أستمع إليه لكن غرفته ملاصقة لغرفتي فكان يسمعها الأغنيات العاطفية التي تحرك المشاعر، أسمع تنهداته وأشواقه التي يبثها لها كل ليلة عبر الهاتف. كنت أضع وسادتي على رأسي حتى لا أسمع. كنت أحلم بأن أحِب وأُحَب، لكنني كنت أعرف بأن هذا الشيء من المستحيلات الخمسة. نعم لا تتعجبوا وتقولوا إن المستحيلات ثلاث كما يقال: الغول والعنقاء والخل الوفي وأنا زدت عليهم أن الكسيح لن يمشي فأصبحوا أربعة والخامسة هي أن ترضى فتاة ما ان تكلمني، إلى أن شاهدت فيلماً سينمائياً على التلفزيون كان بطله كسيحاً مثلي لكنه كان بعكسي متفائلاً ومقبلاً على الحياة، فكان يعمل ويقود سيارة خاصة. ويزور معهدا للمعوقين حيث تعرف هناك إلى فتاة أحلامه التي كانت أيضا على كرسي متحرك. أعجبني هذا الشاب وحماسه.